فصل: تفسير الآيات (78- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [77].
{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون، أو لاستبطائهم الساعة، أو لبيان كماله في العلم والقدرة، تعريضاً بأن معبوداتهم عريّة منهما. فأشار إلى الأول بقوله: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه، أو غيبهما: هو يوم القيامة، فإن علمه غائب عن أهلهما، لم يطلع عليه أحد منهم، وأشار إلى الثاني بقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} و{الساعة}: الوقت الذي تقوم فيه القيامة. واللمح: النظر بسرعة. أي: كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها {أو هو أقرب} من ذلك، أي: أسرع زماناً، بأن يقع في بعض زمانه. وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى. وقوله: {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل له، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى، وأن ما يذكر بعض منها. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (78- 79):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [78- 79].
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} عطف على قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاءً} وقوله تعالى: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ} وقوله تعالى:: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أفاده أبو السعود. و{شيئاً} منصوب على المصدرية أو مفعول {تعلمون} والنفي منصب عليه. أي: لا تعلمون شيئاً أصلاً من حق المنعم وغيره.
{وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ} أي: فتدركون به الأصوات: {وَالأَبْصَارَ} فتحسون المرئيات: {وَالأَفْئِدَةَ} أي: العقول: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها، والمشي على السنن الكونية. ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله:
{أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} أي: مذللات: {فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ} أي: ما يمسكهن في الجو من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا هو سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال الحجة الغزالي في الحكمة في خلق المخلوقات، في حكمة الطير، في هذه الآية، ما مثاله:
اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران. ولم يخلق فيه ما يثقله. وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه. فإن كان رخواً أو يابساً أو بين ذلك، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه. أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه. وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جدًّا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد. وكان من الحكمة، خلقه على هذه الصفة؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء. فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه. فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران. وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها. إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره. وكثيراً ما يعان بطول المنقار أيضاً مع طول العنق؛ ليزداد مطلبه عليه سهولة. ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه. وخلق صدره ودائره ملفوفاً على عظم كهيئة نصف دائرة، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران. وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك. فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم. ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقاً محكماً. ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر. ومنه طويل المنقار جعله صلباً شديداً شبه العظم وفيه ليونة، وما هي في العظم؛ لكثرة الحاجة إلى استعماله. وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان. وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصباً منسوباً فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش. وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد. ومعونة متخللة الهواء للطيران. وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه؛ لكثرة دعاء الحاجة إليه. وجعل في سائر بدنه ريشاً غيره كسوة ووقاية وجمالاً له. وجعل في ريشه من الحكمة، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله، فيعود إلى خفته. وجعل له منفذاً واحداً للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته. وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يميناً وشمالاً، فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها. وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته. ولما كان طعامه يبتلعه بلعاً بل مضغ، جعل لبعضه منقاراً صلباً يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية. وصار يزدرد ما يأكله صحيحاً. وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحناً يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان. واعتبر ذلك بحب العنب وغيره. فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحاً، وينسحق في أجواف الطير. ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد، لئلا يثقل عن الطيران. فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوق عن النهوض للطيران. أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة؟! انتهى ملخصاً.
ثم بيَّن تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته، بقوله، عطفاً على ما مرَّ:

.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [80].
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} أي: موضعاً تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} أي: بيوتاً أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها، أو من الوبر والصوف والشعر أيضاً. فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو الجلود مجاز عن المجموع: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} أي: تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم. لا يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعاً. قيل: والأول أولى؛ لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر. وأما المستوطن فغير مثقل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} أي: وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز: {أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش. والمتاع ما يتخذه للتجارة. وقيل هما بمعنى. ومعنى {إلى حين} أي: إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى. أو إلى أن تموتوا.
تنبيه:
استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية. واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقاً ولو من غير مذكاة. كذا في الإكليل.

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [81].
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ} أي: من الشجر والجبال والأبنية وغيرها: {ظِلاَلاً} أي: أفياء تستظلون بها من حر الشمس: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} أي: بيوتاً ومعاقل وحصوناً تستترون بها: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} جمع سربال، وهو كل ما يلبس من القطن والصوف ونحوها. وإنما خص الحر، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر. أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب؛ لشدته بأكثر بلادهم وخصوصاً قُطَّان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب. قيل: يبعده ذكر وقاية البرد سابقاً في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5] وهو وجه الاقتصار على الحرّ هنا، لتقدم ذكر خلافه: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} كالدروع من الحديد والزرد ونحوها، التي يتقى بها سلاح العدو في الحرب: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي: إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى، وتؤمنوا به وحده.
قال أبو السعود: وإفراد النعمة، إما لأن المراد بها المصدر، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل. وقرئ {تسلمون} بفتح اللام أي: من العذاب أو الجراح.

.تفسير الآيات (82- 84):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [82- 84].
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ} أي: التي عددت، وأنها بخلقه: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أي: بعبادتهم غير المنعم بها، وقولهم: هي من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}.
ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله:
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35- 36]، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يطلب منهم العتبى. أي: إزالة عتب ربهم وغضبه. والعتبى بالضم: الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب. يقال: استعتبه: أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته. والعتب: لومك الرجل على إساءة كانت له إليك، والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه؛ ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه، فإذا لم يطلب العتاب منه، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه.

.تفسير الآيات (85- 86):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [85- 86].
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون.
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} يعني أوثانهم التي عبدوها: {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ} أي: أرباباً أو نعبدها: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة، تنزيهاً لله عن الشرك. أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم.
قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام. وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم. فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5- 6]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81- 82]. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (87):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [87].
{وَأَلْقَوْاْ} أي: وألقى الذين ظلموا: {إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي: الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
أي من أن لله شركاء، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى. فإن قيل: قد جاء إنكارهم كقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] والجواب كما قال القاشاني: إن ذلك بحسب المواقف. فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه. ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، حين زالت الهيئات ورقت، وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى، فيعترف وينقاد. هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد، والله أعلم.

.تفسير الآيات (88- 89):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [88- 89].
{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} أي: يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان، كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْه} [الأنعام: 26]. وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} وهو نبيهم: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} أي: اذكر ذلك اليوم، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم تراباً، لهول المطلع.
وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً} [النساء: 41- 42]. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} مستأنف، أو حال بتقدير قد.
قال الرازي: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، أنه تعالى لما قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} بيَّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا. فلا حجة لهم ولا معذرة.
وقال ابن كثير في وجه ذلك: إن المراد، والله أعلم، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعَمَلُونَ} [الحجر: 92- 93]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو متجه حسن. انتهى.
والتبيان من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة؛ لتكثير الفعل والمبالغة فيه. أي: تبييناً لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم: {وَهُدىً} أي: هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله: {وَرَحْمَةً} أي: له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد، ونجاته من العذاب، وبشارة له بالسعادة الأبدية. وقوله تعالى: